السلطان أورنك زيب

إذا كان القلب يعتصره الألم والحزن على ضياع بلاد الأندلس من المسلمين، فوالله ما كانت الأندلس بالنسبة إلى الهند المسلمة إلا كمقاطعة أو مدينة صغيرة يحكمها أحد ولاة السلطان.
وإذا خلَّف المسلمون وراءهم في الأندلس مسجد قرطبة، فإن مسجد بادشاهي المعروف بالمسجد الجامع في لاهور بالهند ليقف شامخًا دالاً على إبداع وروعة الحضارة الإسلامية في الهند.
وإن خرج من الأندلس حكام عظام وخلفاء عظماء، فيكفى أن خرج من الهند محمود بن سبكتكين والسلطان أورنك زيْب عالكمير
من هو السلطان أورنك زيب؟
هو السلطان العظيم الذي لا يكاد يعرفه أحد، فهو الأسد الجسور، والليث الهصور، والإمام الهمام، وأحد عمالقة الإسلام، أذلَّ الله به الكفر وزلزل الطغيان، وقوَّض عروش أهل الإلحاد في ربوع مملكته والأوطان، وحارب الفساد وأهله في كل مكان، وأتى على بنيان الظلم والظلمة من القواعد حتى خرَّ عليهم السقف من فوقهم! وأذاق المغرورين والمعاندين من كئوس المرار ما انشقَّتْ له حلوقهم! وأرغم الجبابرة على الانقياد لله والرسول r، وجعل المهانة والصغار على كل مَنْ أبى قبول الحق بعد أن أُقيمت عليه من الله الحجة والبرهان، وسلك بالمسلمين في أيامه سبيل الاستقامة وطريق المحجة، فكان كالبدر المشرق في سمائه، والفيض المغدق بسلسبيل رُوَائه، والناصح الأمين للخاص والعام، والمجدِّد لهذا الدين أمره في سابق الأزمان وغابر الأيام، حتى لقَّبه الشيخ الأديب علي طنطاوي بـ بقية الخلفاء الراشدين.
كيف لا؟ وهو العابد الساهر إذا أسبل الليل رداء ظلامه على الأنام، والراكع الساجد في غسق الدجى والحارسون له نيام!
والبطل الكرار إذا طارت قلوب الشجعان في ساحة الوَغَى، والفارس المغوار الذي تُجَمُّ دونه الأُسُود إذا عَلِمَتْ أنه حلَّ بساحتهم وأتى!
وما أرى أحدًا في القوم يشبهه *** وما أُحاشي من الأقوام من أحد؟
 هذا الرجل الذي أقام العدل في زمانه حتى عبقت بذكره الأرجاء، وانقادت له الممالك وخضعت، حتى صار النصر له رفيقًا، وكأنه رياح الله تجري بأمره رخاء حيث يشاء!
ذاكم هو السلطان العظيم، والمجاهد الزاهد أبو المظفر محيي الدين محمد أورانك زيب عالمكير، سلطان مملكة شبه القارة الهندية وما حواليها في القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشرالهجري.
مولد أورانك زيب ونشأته
وُلد السلطان أورنك زيب في بلدة دوحد في كجرات بالهند في 15 من ذي القعدة 1028هـ الموافق 24 من أكتوبر 1619م.
نشأ أُورانك زيب في بيت عزٍّ وترف وشرف؛ فأبوه هو السلطان شاه جيهان أحد أعظم سلاطين دولة المغول المسلمين في الهند، وهو باني مقبرة "تاج محل" الشهيرة؛ التي تعدُّ الآن من عجائب الدنيا السبع.
ظهر من أورنك زيب منذ صغره علامات الجدِّ والإقبال على الدين والبعد عن الترف والملذات وترعرع محبًّا للدين الذي استقاه على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، كما أنه جمع بين الفروسية والشجاعة؛ فكان فارسًا شجاعًا لا يُشَقُّ له غبار.
أورانك زيب أميرًا
تعلم أورنك زيب فن الإدارة وأتقنه، فكان من ملوك المسلمين القلائل الذين برعوا في إدارة الدولة، وعلى الرغم من ذلك فإنه قاد الجيوش بنفسه في عهد أبيه؛ فقمع الثورات، وطهر البلاد، وأظهر في الأرض العدل، وكانت له هيبة وسمت الملوك، وظلَّ الأمر كذلك حتى وفاة أمه "ممتاز محل"، التي بوفاتها انشغل السلطان "شاه جيهان" ببناء مقبرة يخلِّد فيها ذكراها، وصرف لذلك الأموال، وحمل الناس على العمل الشاقِّ فأُهملت السلطنة، وظهرت بوادر الفتن والثورات، ولم يكن للسلطان "شاه جيهان" يومها من همٍّ إلا النظر إلى ضريح زوجته.
طمع الأخ الأكبر لأورنج زيب في الحكم ووثب على كرسي أبيه فاستولى على كل شيء إلا الاسم؛ فظلَّ يحكم باسم أبيه.
 لم يدم الحال طويلاً حتى استطاع أورنك زيب أَخْذَ الحكم لنفسه، وعمل على قمع الثورات التي شنها إخوته عليه، وحبس أباه في حصن أجرا، وجعل له شرفة تطلُّ على ضريح زوجته، فكان دائم النظر إليه حتى وافته المنية.

 أورانك زيب سلطان على البلاد
أعلن أورنج زيب نفسه سلطانًا على البلاد وكان وقتها عنده من العمر 40 سنة، ولم يركن أورنك زيب إلى الدعة والراحة، بل لبس لأمة الحرب من أول يوم، وظل في جهاد دام 52 سنة حتى خضعت له شبه القارة الهندية، من مرتفعات الهيمالايا إلى المحيط، ومن بنجلادش اليوم إلى حدود إيران.
شهدت إمبراطورية المغول الإسلامية في الهند في عهد أورنك زيب (1658م: 1707م) أقصى امتداد لها؛ وذلك يرجع إلى الجهود العسكرية التي بذلها السلطان أورنك زيب؛ حيث لم يبق إقليم من أقاليم الهند إلا خضع تحت سيطرة السلطان، فاستطاع أورنك زيب تحويل شبه القارة الهندية إلى ولاية مغولية إسلامية ربط شرقها بغربها وشمالها بجنوبها تحت قيادة واحدة، ولقد خاض المسلمون في عهده أكثر من 30 معركة؛ قاد هو بنفسه منها 11 معركة وأسند الباقي إلى قوَّاده.
أبطل أورنك زيب 80 نوعًا من الضرائب، وفرض الجزية على غير المسلمين بعدما أبطلها أجداده، وأقام المساجد والحمامات والخانقات والمدارس والبيمارستانات، وأصلح الطرق وبنى الحدائق، أصبحت دهلى في عهده حاضرة الدنيا، وعين القضاة وجعل له في كل ولاية نائبًا عنه، وأعلن في الناس أنه "مَنْ كان له حق على السلطان فليرفعه إلى النائب الذي يرفعه إليه".
وأظهر أورنك زيب تمسُّكه بالإسلام والتزامه بشرائعه؛ فأبطل الاحتفال بالأعياد الوثنية؛ مثل عيد النيروز، ومنع عادة تقبيل الأرض بين يديه والانحناء له، ومنع الخطب الطويلة التي تقال لتحية السلطان، واكتفى بتحية الإسلام، كما منع دخول الخمر إلى بلاده، وصرف أهل الموسيقى والغناء عن بلاطه، ورُوي في ذلك قصة: أنه كان يومًا خارج قصره فرأى الموسيقيين والقينات يلبسون السواد ويبكون ويحملون نعشًا، فسأل: ما هذا؟ قالوا: هذا الغناء والمعازف نذهب لدفنها. فقال رحمه الله: إذن أحسنوا دفنها لئلاَّ تقوم مرة أخرى!!
وأتمَّ السلطان حفظ القرآن الكريم وهو يجلس على كرسي الحكم، وعين للقضاة كتابًا يفتون به على المذهب الحنفي، فأمر بتأليف الكتاب تحت نظره وإشرافه، واشتهر الكتاب باسم "الفتاوى الهندية"، أو "الفتاوى العالمكيرية"، يعرفه كل طلبة العلم.
ثم أقدم على بناء مسجد "بادشاهي" في لاهور بباكستان الآن؛ المسجد الذي ظلَّ إلى الآن شاهدًا على عصر عزِّ المسلمين وتمكينهم، وقضى على فتنة البرتغاليين في المحيط، وكان رحمه الله يصوم رمضان كاملاً ولا يفطر إلا على أرغفة من الشعير من كسب يمينه من كتابة المصاحف لا من بيت مال المسلمين!!
 لم يستطع أن يحج إلى بيت الله الحرام؛ فاستعاض بذلك أن كتب مصحفين بخط يده، وأرسل واحدًا إلى مكة والآخر إلى المدينة!!
وكان صاحب عبادة عظيمة، ويخضع للمشايخ ويُقَرِّبهم ويستمع إلى مشورتهم ويعظم قدرهم، وأمر قواده أن يستمعوا إلى مشورتهم بتواضع شديد؛ حتى إنه سمع أن نائبه بالبنغال اتخذ مثل العرش يجلس عليه، فنهره وعنفه، وأمره أن يجلس بين الناس كجلوس عامتهم!!
وكان يصوم الاثنين والخميس والجمعة من كل أسبوع لم يتركها قطُّ، وكان يأبى إلا أن يُصَلِّيَ الفرائض كلها في وقتها جماعة مع المسلمين، وكان يُصَلِّي التراويح إمامًا بالمسلمين، ويعتكف العشر الأواخر في المسجد، فكان أعظم ملوك الدنيا في عصره.
وخصَّص موظَّفين يكتبون كلَّ ما يقع من أحوال رعاياه ويرفعونه إليه، وأبطل عادة تقديم الهدايا إليه كما كان يُفعل مِنْ قَبْلُ مع أسلافه، وكان يجلس للناس ثلاث مرَّات يوميًّا دون حاجب يسمع شكاواهم.
ووُفِّقَ إلى أمرين لم يسبقه إليهما أحد من ملوك المسلمين:
الأول: أنَّه لم يكن يُعطى عالمًا عطية أو راتبًا إلا طالبه بعملٍ؛ بتأليف أو بتدريس، لئلاَّ يأخذ المال ويتكاسل، فيكون قد جمع بين السيئتين، أخذ المال بلا حقٍّ وكتمان العلم!!
الثاني: أنَّه أوَّل من عمل على تدوين الأحكام الشرعية في كتاب واحد، يُتَّخذ قانونًا فوضعت له وبأمره وبإشرافه وتحت ناظره كتاب "الفتاوى الهندية – العالمكيرية" على المذهب الحنفي.
دخل ملايين من المنبوذين في الهند في الإسلام، ووقف حائلاً أمام المد الشيعي الصفوي على البلاد، وألَّف كتابًا شرح فيه أربعين حديثًا شريفًا على غرار الأربعين النووية.
قالوا عن السلطان أورانك زيب
قال عنه المرادي في ترجمته من كتابه "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر":
(سلطان الهند في عصرنا، وأمير المؤمنين وإمامهم، وركن المسلمين ونظامهم، المجاهد في سبيل الله، العالم العلامة الصوفي العارف بالله، الملك القائم بنصرة الدين، الذي أباد الكفار في أرضه، وقهرهم وهدم كنائسهم، وأضعف شركهم، وأيد الإسلام وأعلى في الهند منارته، وجعل كلمة الله هي العليا، وقام بنصرة الدين وفرض الجزية على كفار الهند، ولم يأخذها منهم ملكٌ قبله لقوتهم وكثرتهم! وفتح الفتوحات العظيمة، ولم يزل يغزوهم، وكلما قصد بلدًا سلكها إلى أن نقله الله إلى دار كرامته وهو في الجهاد، وصرف أوقاته للقيام بمصالح الدين وخدمة رب العالمين من الصيام والقيام والرياضة؛ التي لا يتيسر بعضها لآحاد الناس فضلاً عنه! وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكان موزعًا لأوقاته: فوقت للعبادة، ووقت للتدريس، ووقت لمصالح العسكر، ووقت للشُكاة، ووقت لقراءة الكتب والأخبار الواردة عليه كل يوم وليلة من مملكته، لا يخلط شيئًا بشيء!
والحاصل: إنه كان حسنة من حسنات الزمان، ليس له نظير في نظام سلطنته، وقد أُلِّفَتْ في سلطنته وحُسن سيرته الكتب الطويلة بالفارسية.....).
ثم قال: (واشتغل بالمملكة من سنة ثمانٍ وستين وألف، وأراد الله بأهل الهند خيرًا؛ فإنه رفع المظالم والمكوس وطلع من الأفق الهندي فجره، وظهر من البرج التيموري بدره، وفلك مجده دائر، ونجم سعده سائر، وأسر غالب ملوك الهند المشهورين، وصارت بلادهم تحت طاعته، وجُبِيَتْ إليه الأموال، وأطاعته البلاد والعباد، ولم يزل في الاجتهاد في الجهاد، ولم يرجع إلى مقرِّ ملكه وسلطنته بعد أن خرج منه، وكلما فتح بلادًا شرع في فتح أخرى، وعساكره لا يُحْصَوْنَ كثرة وعظمة، وقوته لا يمكن التعبير عنها بعبارة تؤدِّيها حقَّها! وأقام في الهند: دولة العلم وبالغ في تعظيم أهله حتى قصده الناس من كل البلاد).
وقال عنه المحبي في "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر":
(أورنك زيب يوصف بـ الملك العادل الزاهد، وبلغ من الزهد مبلغًا أناف فيه على ابن أدهم، أي: إبراهيم بن أدهم الزاهد المشهور!
فإنه مع سعة سلطانه يأكل في شهر رمضان رغيفًا من خبز الشعير من كسب يمينه! ويُصَلِّي بالناس القيام إمامًا، وله نعم بارَّة، وخيرات دارَّة جدًّا، وأمر من حين ولي السلطنة برفع المكوس والمظالم عن المسلمين، ونصب الجزية بعد أن لم تكن على الكفار، وتمَّ له ذلك مع أنه لم يتمَّ لأحد من أسلافه أخْذُ الجزية منهم؛ لكثرتهم وتغلُّبهم على إقليم الهند، وأقام فيها دولة العلم، وبالغ في تعظيم أهله وعظمت شوكته، وفتح الفتوحات العظيمة، وهو مع كثرة أعدائه وقوَّتهم غير مبالٍ بهم، مشتغل بالعبادات، وليس له في عصره من الملوك نظير في حُسن السيرة والخوف من الله تعالى والقيام بنصرة الدين رحمه الله تعالى.....).
وفاة السلطان أورنك زيب عالمكير رحمه الله...

توفي السلطان أورنك زيب عالمكير في (28 من ذي القعدة 1118هـ الموافق20 من فبراير 1707م) بعد أن حكم 52 سنة، وكان قد بلغ من تقواه أنه حين حضرته الوفاة أوصى بأن يُدفن في أقرب مقابر للمسلمين، وألا يعدو ثمن كفنه خمس روبيات!!
بذلك يكون عمر السلطان حين وفاته 90 سنة!! ولم تمنعه سنُّه من قيادة الجيوش أو قراءة القرآن.
هكذا كان أجدادنا, لم يركنوا إلى الدعة والراحة؛ بل كانت حياتهم كلها لله, وبوفاة السلطان أبو المظفر محيي الدين محمد أورنك زيب عالمكير, انتهت عظمة دولة المسلمين في الهند فجاء من بعده حكام ضعاف، وظلَّ الأمر كذلك حتى انتهت تمامًا بسقوط آخر سلطان بهادر شاه الثاني عام 1857م بواسطة الإنجليز, ولم تقم للإسلام قائمة منذ ذلك الزمن في تلك البلاد الشاسعة.
وبموت هذا الأسد الكاشر غربت شمس المجد عن شبه المملكة الهندية حتى الآن! وخرج الأنذال من جحورهم يزأرون ويَعْوون! ويعيثون في الأرض الفساد كما كانوا يعيثون! وخطب الزنادقة على المنابر! ومرق المارقون، ونهض إلى البدع أولئك الناهضون! وهُتِكَت الأعراض، وسُفكت الدماء! واسْتُحِلَّت المحارم! وضرب الإلحاد بأطنابه في ربوع البلاد! وجُعِلت الذلَّة والصغار على مسلمي العباد! وجرتْ دماؤهم في تلك الديار، واغْتُصِبَتْ نساؤهم وبناتهم جهارًا! فيا للعار!
ويا سوء صباح: تُشرق فيه شمسه على ذبح الأطفال والضعفاء من الموحِّدين!
ويا بؤس ليل: يُسْفِر فيه قمره على صرخات المغتصبات من فتيات ونساء المؤمنين!
مذابح المسلمين في الهند:
مذبحة أحمد أباد عام 1970م؛ التي ذهب ضحيتها 15 ألف مسلم باعتراف أنديرا غاندي نفسها! وارتكب فيها الهنادكة -وهم: عباد البقر- أفظع الجرائم في تاريخ البشرية! منها: إحراقهم 300 امرأة مسلمة بالنار وهن أحياء! فيا ويلي وويل أبي وأمي من تلك العظائم!
ومنها: مذبحة آسام الشهيرة التي ذهب ضحيتها أكثر من 50 ألف مسلم على أيدي الهنادكة من أعضاء الحكومة المركزية.
ومنها: مجزرة ميروت ومليانة عام 1987م التي سالت فيها الدماء بحورًا!

المصدر : قصة الاسلام
شكرا لك ولمرورك